فصل: (مسألة: تيمم المريض)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البيان في مذهب الإمام الشافعي



.[فرع: تيمم ثم وجد ماء لا يكفي]

إذا لم يجد الجنب والمحدث ماء، فتيمم، ثم وجد من الماء ما لا يكفيه:
فإن قلنا: إن من وجد من الماء ما لا يكفيه، لا يلزمه استعماله.. فتيممه باق بحاله.
وإن قلنا يلزمه استعماله.. بطل تيممه.
وإن أجنب ولم يجد الماء، فتيمم وصلى به فريضة، ثم أحدث.. لم يجز له: أن يصلي فريضة ولا نافلة. فإن وجد من الماء ما لا يكفيه لغسل جميع بدنه، ولكن يكفيه لأعضاء الوضوء: فإن قلنا: يلزمه استعماله لو وجده للجنابة.. بطل تيممه؛ لوجوده، ولم يجز له أن يصلي بالتيمم الأول نافلة، ولا فريضة، بل يجب عليه أن يستعمله، ثم يتيمم.
وإن قلنا: لا يجب عليه استعماله للجنابة.. فإن أبا عباس بن سريج قال: إن توضأ به.. ارتفع حدثه، وجاز له أن يصلي به النافلة دون الفريضة؛ لأن التيمم الذي ناب عن غسل الجنابة أباح له فريضة واحدة، وما شاء من النوافل، فلما أحدث.. حرم عليه أن يصلي النوافل. فإذا توضأ.. ارتفع تحريم النوافل فاستباحها، ولم يستبح الفريضة؛ لأن هذا الوضوء لا ينوب عن الجنابة، وهذا وضوء تستباح به النافلة دون الفريضة.
وإن أراد أن يتيمم للفريضة الثانية بعد دخول وقتها.. صح تيممه لها، واستباح به الفريضة، ويستبيح به النافلة أيضا؛ لأنه إذا استباح به الفريضة.. فلأن يستبيح به النافلة أولى.
وإن أراد أن يتيمم للنافلة.. ففيه وجهان، حكاهما ابن الصباغ:
أحدهما من أصحابنا من قال: يصح؛ لأنه يصح أن يتيمم به للفريضة، ويستبيح به النافلة، فصح تيممه للنافلة مفردة.
والثاني: قال القاضي أبو الطيب: لا يصح تيممه للنافلة؛ لأنه يقدر على الوضوء لها، فلا يستبيحها بالتيمم. ويفارق الفريضة؛ لأنه لا يقدر على استباحتها بالوضوء؛ ولأن تيممه للفريضة ينوب عن الجنابة، فاستباح به النافلة، وتيممه للنافلة ينوب عن الوضوء، فلم يصح مع قدرته على الوضوء.
فيقال في هذه المسألة: هل تعلم على مذهب الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - وضوءًا يصح بنيته رفع الحدث، ولم تستبح به الفريضة، واستبيح به النافلة؟ فقل: نعم، وهو هذا على هذا القول.
فإن قيل: هل تعلم وضوءًا لا يصح بنية استباحة الفرض، ويصح بنية استباحة النفل؟ فقل: نعم، وهو هذا الوضوء؛ لأنه لا يصح أن يستبيح به الفرض، فلا يصح أن ينوي به استباحته. ويستبيح به النقل، فصح بنية استباحته.
فإن قيل: هل تعلم محدثًا ممنوعًا من الفرض والنفل، لحدثه، فإن تيمم للفرض.. صح، وإن تيمم للنقل... لم يصح؟ فقل: نعم، وهو هذا، على قول القاضي أبي الطيب.
فإن قيل: هل تعلم جنبًا يجوز له: أن يقعد في المسجد ويقرأ القرآن، ولا يجوز له مس المصحف، وفعل الصلاة؟ فقل: نعم، وهو هذا.
وكذلك الجنب: إذا عدم الماء، فتيمم، وأحدث، ولم يجد ماء، فإنه يجوز له: أن يقعد في المسجد، ويقرأ القرآن، ولا يجوز له: مس المصحف، ولا فعل الصلاة.

.[مسألة: فيمن أولى بالماء]

وإذا اجتمع ميت، وجنب، وحائض انقطع دمها، وهناك ما يكفي أحدهم... فإن كان لأحد الحيين كان أحق به، ولا يجب عليه بذله للميت.
وقال أبو إسحاق في " الشرح ": من أصحابنا من قال: فيه قول آخر، إن عليه أن يقدم الميت به، ويأخذ ثمنه من مال الميت.
قال ابن الصباغ: وهذا لا يعرف للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لأنه محتاج إليه لنفسه، فلا يجب عليه أن يبذله لغيره.
فإن خالف مالك الماء، فبذله للميت، أو للحي الآخر... فحكى المحاملي في " المجموع "، عن أبي إسحاق: أنه لا يزول ملكه عن الماء، وهكذا ذكره الصيدلاني.
فإن تيمم وصلى... نظرت: فإن تيمم مع بقاء الماء لم يصح تيممه؛ لأنه تيمم مع وجود الماء.
وإن تيمم بعد أن غسل الميت بالماء، أو اغتسل به الحي الآخر... فهل يلزم باذل الماء إعادة ما صلى بالتيمم؟ فيه وجهان، كالوجهين فيمن كان معه ماء، فأراقه بعد دخول الوقت، وتيمم وصلى.
فإذا قلنا: يلزمه الإعادة، فكم يعيد من الصلوات؟ فيه وجهان، حكاهما في "الإبانة" [ق\32]:
أحدهما: يعيد صلاة واحدة.
والثاني: يعيد من الصلوات التي صلاها بالتيمم ما كان يصليها في غالب أحواله بالطهارة لو تطهر.
وهكذا لو بذل له غيره الماء بغير عوض، أو بعوض مثله وهو واجد له غير محتاج إليه، فلم يقبل، وتيمم وصلى... فإنه يعيد، وفي القدر الذي يعيده هذان الوجهان.
وإن كان الماء للميت... كان أحق به منهما؛ لأنه ملكه، إلا أن يحتاج إليه الحيان لعطش يخافان منه التلف فلهما أن يشربا ذلك وييمما الميت؛ لأن حفظ الحي آكد من تطهير الميت.
قال الشيخ أبو حامد، وابن الصباغ: ويجب عليهما قيمة الماء للوارث في ذلك الموضع.
وهكذا قال المسعودي [في "الإبانة" ق\33]، غير أنه قال: لأن الماء وإن كان من ذوات الأمثال، إلا أنه لا قيمة للماء في البلد.
قال: فإذا رجع الورثة بقيمة الماء، ثم عادوا يومًا إلى ذلك المكان... فهل لهم أن يردوا قيمة ما أخذوه من الماء، ويطالبوا بمثل الماء؟
فيه وجهان، بناء على ما لو أتلف عليه شيء من ذوات الأمثال، ففقد المثل فانتقل إلى قيمة، ثم وجد المثال... هل له أن يرد القيمة، ويأخذ المثل؟ فيه وجهان.
وكذلك: لو وجد بالمبيع عيبًا بعدما حدث عنده عيب آخر، ثم زال العيب الجديد... هل له أن يرد بالعيب الأول؟ فيه وجهان.
وإن كان الماء مباحًا أو لغيرهم، وأراد أن يجود به على أحدهم... فالميت أولى؛ وعلله الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: بأن هذا خاتمة أمر الميت، ولا يرجى له طهارة بعدها، والحيان يرجى لهما طهارة بعد هذا.
ومن أصحابنا من علله بعلة أخرى، وقال: لأن غسل الميت لا يراد لرفع الحدث والصلاة به، وإنما يراد للتنظيف، وذلك لا يحصل بالتراب. والقصد من طهارة الحيين استباحة الصلاة، والتيمم يقوم مقام الماء في استباحة الصلاة.
فإن اجتمع حي على بدنه نجاسة، وميت، والماء يكفي أحدهما:
فإن قلنا بتعليل الشافعي في الأولى... فالميت أولى.
وإن قلنا بتعليل غيره فيها... فصاحب النجاسة أولى.
وإن اجتمع جنب، وحائض انقطع دمها، وهناك ماء يكفي أحدهما... ففيه ثلاثة أوجه، حكاها الشيخ أبو حامد:
أحدها: أن الجنب أولى؛ لأن وجوب غسله معلوم بنص القرآن، وغسل الحائض مستفاد بخبر الآحاد، والاجتهاد.
والثاني: أن الحائض أولى، لأنها تستبيح بالغسل أكثر مما يستبيحه الجنب، وهو إباحة الوطء، ولأن الحائض لا تخلو من نجاسة، والجنب قد يخلو منها، ولأن غسلها قد ورد به القرآن، وثبت به الإجماع.
والثالث: أنهما سواء لأن التيمم بدل عن غسل كل واحد منهما، فاستويا.
وإن اجتمع جنب ومحدث وهناك ماء فإن كان يكفي المحدث، ولا يكفي الجنب... فالمحدث أولى؛ لأنه يرفع حدثه، ويسقط به فرضه، والجنب لا يرفع حدثه، ولا يسقط به عنه فرضه على قول بعض الناس.
وإن كان الماء يكفي الجنب، ويفضل عنه ما يغسل به المحدث بعض أعضائه، ويكفي المحدث ويفضل عنه ما لا يكفي الجنب... فالجنب أولى؛ لأن حدث الجنب أغلظ؛ لأنه لا يقدر على اللبث في المسجد، ولا على قراءة القرآن.
وإن كان الماء يكفي الجنب، ولا يفضل عنه شيء، ويكفي المحدث، ويفضل عنه ما يغسل به الجنب بعض أعضائه... ففيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أن الجنب أولى؛ لما ذكرناه في المسألة قبلها من أن حدثه أغلظ.
والثاني: أن المحدث أولى؛ لأن فيه تشريكًا بينهما.
والثالث: أنهما سواء؛ لأنه يرتفع به حدث كل واحد منهما.
وإن كان على بدنه نجاسة، وهو محدث ومعه من الماء ما يكفي أحدهما... فإنه يغسل النجاسة بالماء، ويتيمم للحدث؛ لأنا قد بينا: أن التيمم لا يصح عن إزالة النجاسة، ولا بدل لها، والتيمم ينوب عن الحدث، فوجب استعمال الماء فيما لا يقوم غيره مقامه.

.[مسألة: فاقد الطهورين]

وإن عدم الماء والتراب، بأن حبس في موضع لا يجدهما، أو لم يجد إلا ترابًا نجسًا... فالمشهور من المذهب: أنه يجب عليه أن يصلي على حسب حاله. وبه قال الليث، وأبو يوسف، ومحمد، وأحمد.
وقال أبو حنيفة: (يحرم عليه أن يصلي، ولكن يقضي):
وحكى الشيخ أبو حامد: أن الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - قال في القديم: (يعجبني أن يصلي حتى لا يخلو الوقت من الصلاة، ولا يجب عليه؛ لأنه لا يفيد، ولكن يقضي).
وقال مالك، وداود: (لا يجب عليه أن يصلي، ولا يقضي).
ودليلنا للأول: ما روي: «أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعث أسيد بن حضير، وأناسًا معه في طلب قلادة أضلتها عائشة - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فحضرت الصلاة ولا ماء معهم، فصلوا بغير طهارة، فأتوا النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فأخبروه بذلك، فنزلت آية التيمم»، ولم ينكر النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صلاتهم بغير طهارة. ولأن الصلاة لا تسقط عن المكلف بتعذر شرط من شرائطها، كتعذر السترة، وإزالة النجاسة.
فإذا قلنا بهذا: فهل يجب عليه القضاء؟.
وقال البغداديون من أصحابنا: تجب عليه الإعادة؛ لأن هذا عذر نادر غير متصل، فلم يسقط فرض الصلاة معه؛ كما لو صلى بنجاسة نسيها.
وحكى بعض أصحابنا الخراسانيين فيها قولين:
أحدهما: يجب عليه الإعادة؛ لما ذكرناه.
والثاني: لا يجب عليه؛ لأن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لم يأمر أسيد بن حضير وأصحابه بالإعادة.
والأول أصح؛ لأن الإعادة على التراخي، ويجوز تأخير البيان إلى وقت الحاجة.
وإن انقطع دم الحائض، ولم تجد ماء، ولا ترابًا... فحكمها في الصلاة حكم غيرها، على ما بينا.
قال الصيدلاني: ولا يباح وطؤها على الأصح؛ لأنها ما أتت على حدثها بأصل، ولا بدل.

.[مسألة: تيمم المريض]

قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (ولا يتيمم مريض في شتاء ولا صيف، إلا من به قرح له غور، أو به ضنى من مرض، يخاف إن مس الماء أن يكون منه التلف). وجملته: أن المرض على ثلاثة أضرب.
ضرب: لا يخاف من استعمال الماء فيه تلف نفس، ولا عضو، ولا حدوث مرض مخوف، ولا إبطاء البرء، مثل: الصداع، ووجع الضرس، والحمى... فهذا لا يجوز التيمم لأجله، وهو قول كافة العلماء.
وقال داود، وبعض أصحاب مالك: (يجوز).
واستدلوا: بعموم قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43] الآية.
ودليلنا: قوله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «لا يقبل الله صلاة امرئ حتى يضع الوضوء مواضعه».
وهذا عموم يعارض عمومهم. وروي: أن النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قال: «الحمى من فيح جهنم، فأطفئوها بالماء»، وروي: «فأبردوها بالماء». فندب إلى إطفاء حرها بالماء، فلا يجوز أن يكون ذلك سببًا لترك استعمال الماء؛ لأن هذا واجد للماء لا يخاف التلف من استعماله، فأشبه الصحيح. وأما الآية: فالمراد بها: إذا خاف التلف من استعمال الماء.
الضرب الثاني ـ من الأمراض ـ: هو أن يخاف من استعمال الماء تلف النفس، أو تلف عضو، أو حدوث مرض يخاف منه تلف النفس، أو تلف عضو.. فهذا يجوز له التيمم مع وجود الماء.
وبه قال كافة أهل العلم، إلا ما حكي عن الحسن، وعطاء، أنهما قالا: لا يجوز له التيمم مع وجود الماء، واحتجا بقوله تعالى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ} [المائدة: 6] إلى قوله: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [المائدة: 6]، فأباح للمريض التيمم عند عدم الماء.
ودليلنا: ما ذكرناه من حديث عمرو بن العاص: (أنه تيمم لخوف التلف من البرد، مع وجود الماء، فعلم به النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بعد ذلك، فلم ينكر عليه).
وروي: أن رجلاً أصابته شجة في رأسه في بعض الغزوات، ثم أجنب، فسأل الناس، فقالوا: لا بد لك من الغسل، فاغتسل، فمات، فبلغ ذلك النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فقال: «قتلوه، قتلهم الله، هلا سألوا إذ لم يعلموا؟ فإنما شفاء العي السؤال، إنما كان يكفيه أن يتيمم، ويعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها ويغسل سائر بدنه». وهذا نص.
وأما الآية: ففيها إضمار، وتقديرها: وإن كنتم مرضى فلم تقدروا على استعمال الماء، أو كنتم على سفر فلم تجدوا ماء.. فتيمموا.
وإن سلمنا: أنه لا إضمار فيها.. فالمراد بها: المرض الذي يخاف من استعمال الماء فيه التلف، بدليل ما رويناه.
والضرب الثالث: ـ من الأمراض ـ: أن لا يخاف من استعمال الماء فيه تلف النفس، ولا تلف عضو، ولكن يخاف منه إبطاء البرء، أو زيادة الألم.. فالمنصوص للشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ - في "الأم" [1/38]، و" المختصر " [1/34] (أنه لا يجوز له التيمم).
وقال في القديم، في " الإملاء "، و" البويطي ": (يجوز له التيمم).
واختلف أصحابنا على ثلاث طرق:
فـالأول: قال أكثرهم: هي على قولين:
أحدهما: لا يجوز له التيمم، وبه قال أحمد، وعطاء، والحسن.
ووجهه: قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا} [النساء: 43]. [النساء: 43]
قال ابن عباس، في قَوْله تَعَالَى: {وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى} [النساء: 43]. فعم ولم يخص. ولأنه يستضر باستعمال الماء، فأشبه إذا خاف منه التلف.
وما روي عن ابن عباس.. فليس بتفسير، بدليل: أن من كانت به جراحة في غير سبيل الله يخاف منها التلف.. جاز له أن يتيمم، بلا خلاف.
و الطريق الثاني قال أبو العباس، وأبو سعيد الإصطخري: يجوز له التيمم، قولاً واحدًا؛ لما ذكرناه على ما قاله في القديم، و"البويطي"، و"الإملاء"، وما قاله في "الأم"، و" المختصر" محمول عليه: إذا كان لا يخاف التلف، ولا الزيادة في العلة.
و الطريق الثالث منهم من قال: لا يجوز التيمم، قولاً واحدًا، وما قاله في القديم، و"البويطي"، و"الإملاء" محمول عليه: إذا خاف زيادة يكون منها التلف.

.[مسألة: حصول عيب على عضو ظاهر]

وإن كان يخاف من استعمال الماء لحوق الشين لا غير.. فاختلف أصحابنا فيه:
فقال أبو إسحاق المروزي: لا يجوز له أن يتيمم لأجل ذلك بحال؛ لأنه لا يخاف التلف، ولا الألم، ولا إبطاء البرء، فهو كما لو خاف وجود البرد.
وقال أكثر أصحابنا: إن كان شينًا يسيرًا لا يشوه خلقة الإنسان، ولا يقبحها، مثل آثار الجدري، أو قليل حمرة، أو خُضرة.. لم يجز له: أن يتيمم قولاً واحدًا؛ لأنه لا يستضر بذلك. وإن كان يحصل به شينٌ كبيراٌ، مثل: أن يسود بعض وجهه،
أو يخضر، أو يحصل به آثار يقبح منظرها.. فهو كما لو خاف الزيادة في المرض، على ما مضى من الخلاف؛ لأنه يألم قلبه بذلك، كما يألم بزيادة المرض.

.[فرع: يغسل الصحيح ويتيمم عن الجريح]

لو كان بعض بدنه صحيحًا، وبعضه جريحًا.. غسل الصحيح، وتيمم عن الجريح.
وقال أبو إسحاق، والقاضي أبو حامد: يحتمل أن يكون فيه قول آخر: أنه يقتصر على التيمم، كما لو وجد من الماء ما لا يكفيه للطهارة.
وقال عامة أصحابنا: بل هي على قول واحدٍ، وهذا التخريج لا يصح؛ لأن عدم بعض الأصل يجري مجرى عدم جميعه، كما تقول فيمن وجد بعض الرقبة، بخلاف عجزه في نفسه، فإنه لو كان بعضه حرًا، وبعضه عبدًا، ووجبت عليه الكفارة في اليمين.. فإنه يكفر بالمال هذا مذهبنا.
وقال أبو حنيفة: (عن كان أكثر بدنه صحيحًا.. اقتصر على غسل الصحيح، ولا يلزمه التيمم. وإن كان أكثر بدنه جريحًا.. اقتصر على التيمم، ولا يلزمه غسل الصحيح).
ودليلنا: ما روى جابر، في الرجل الذي أصابته الشجة في رأسه فاحتلم، فاغتسل فمات، فقال النبي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: «إنما كان يكفيه أن يعصب على رأسه خرقة، ويمسح عليها، ويتيمم، ويغسل سائر بدنه».
إذا ثبت هذا: فإن كان جنبًا.. فهو بالخيار؛ إن شاء تيمم عن الجريح، ثم غسل الصحيح، وإن شاء غسل الصحيح، ثم تيمم عن الجريح؛ لأن الترتيب لا يجب في الغسل.
فإن كانت الجراحة في وجهه وقال: إن غسلت رأسي فاض الماء على وجهي.. لم يكن له ترك غسل الرأس، بل يجب عليه أن يستلقي، أو يقنع رأسه، فيمر عليه الماء.
فإن خاف إذا صب عليه الماء أن ينتشر الماء إلى القرح.. قال الشافعي - رَحِمَهُ اللَّهُ -: (أمسه الماء إمساسًا، وناب التيمم عما تركه).
وإن كان الجرح في ظهره، ومعه من يضبطه منه. فعليه أن يأمره بذلك، ويغسل الصحيح. وكذلك إن كان أعمى.. أمر بصيرا بذلك.
فإن كان في موضع لا يجد فيه من يضبطه منه.. غسل ما يقدر عليه من بدنه، وتيمم، وأعاد إذا قدر؛ لأن ذلك نادر، كما نقول في الأقطع إذا لم يجد من يوضئه. ولا يلزمه أن يعصب على الجراحة، ويمسح على العصابة، إلا إن كان محتاجًا إلى العصابة؛ لشد الدواء على الجراحة، أو يخشى انبعاث الدم.. فإنه يعصب على الجراحة، وعلى ما لا يمكن عصبها إلا بعصبة من الصحيح.
فإن خاف من حل العصابة.. لم يلزمه حلها، ويلزمه المسح على العصابة؛ لأجل ما تحتها من الصحيح الذي لا بد أن يكون عليه، لا لأجل موضع الجراحة، كما قلنا في الجبيرة.
وإن كان القرح على موضع التيمم.. أمر التراب على موضع القرح؛ لأنه لا ضرر عليه في ذلك.
وإن كان للقرح هناك أفواه منفتحة.. لزمه أن يمر التراب على ما انفتح منها؛ لأنه صار ظاهرًا، ثم يغسل الصحيح.
وبدأ الشافعي - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - هاهنا بالتيمم؛ ليكون الغسل بعده، فيزيل التراب عن صحيح الوجه واليدين. وإن بدأ بالغسل قبل التيمم.. جاز.
وإن كان محدثًا الحدث الأصغر.. فهل يلزمه الترتيب بين الطهارة بالماء، والتيمم؟ فيه ثلاثة أوجه، حكاها صاحب "الإبانة" [ق\34]:
أحدها: يجب الترتيب. فعلى هذا: يغسل، ثم يتيمم.
والثاني: لا يجب الترتيب. فعلى هذا: لا يجوز له التيمم أولاً، ثم الغسل.
والثالث: ـ وهو الأصح ـ ولم يذكر المحاملي، وابن الصباغ غيره: أنه لا ينتقل من عضو حتى يكمل طهارته.
فعلى هذا: إن كانت الجراحة في بعض وجهه، فإن شاء.. غسل صحيح وجهه، ثم تيمم عن جريحه، ثم غسل يديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه. وإن شاء.. تيمم عن جريح وجهه أولاً، ثم غسل صحيحه، ثم غسل يديه، ومسح برأسه، وغسل رجليه.
وإن كانت الجراحة في إحدى يديه.. فعليه أن يغسل وجهه أولاً، ثم هو بالخيار: إن شاء تيمم عن جريح يده، ثم غسل صحيحها والأخرى، ثم مسح برأسه، ثم غسل رجليه. وإن شاء غسل صحيح يده بعد غسل وجهه، ثم تيمم عن جريحها.
وإن كانت الجراحة في يديه.. فالمستحب: أن يجعل كل يد بمنزلة عضو منفرد، فيغسل وجهه، ثم يغسل صحيح يده اليمنى، ثم يتيمم عن جريحها، ثم يغسل صحيح يده اليسرى، ثم يتيمم عن جريحها. وإن شاء قدم التيمم لكل يد على غسل صحيحها. وإن شاء جعل اليدين كالعضو الواحد، فيتيمم لجريحيهما تيممًا واحدًا، ثم يغسل صحيحيهما. أو يغسل صحيحيهما ثم يتيمم عن جريحيهما تيممًا واحدًا، وعلى هذا التنزيل في رجليه.
فإن كان في بعض وجهه جراحة، وفي يده جراحة، وفي رجله جراحة.. فهو بالخيار: إن شاء غسل صحيح وجهه، ثم يتيمم عن جريحه. وإن شاء تيمم عن جريحه، ثم غسل صحيحه، ثم ينتقل إلى اليدين، كما ذكرنا في الوجه، ثم يمسح برأسه ثم ينتقل إلى الرجلين، كما ذكرنا في الوجه واليدين. فيلزمه هاهنا ثلاثة تيممات.
قال ابن الصباغ: فإن قيل: فهلا قلتم: إذا غسل صحيح وجهه أولاً، ثم تيمم عن جريحه.. أجزأه هذا التيمم عن جريح وجهه، وعن جريح يديه، بدليل: أنه لو أراد أن يوالي بين التيممين ـ على ما قلتم ـ لصح؟!
فالجواب: أنَّا لا نقول ذلك؛ لأن هذا يؤدي إلى سقوط الفرض عن جزءٍ من الوجه، وجزءٍ من اليد في حالة واحدة، وذلك يبطل الترتيب.
فإن قيل: أليس التيمم يقع عن جميع الأعضاء، فيسقط به الفرض مرة واحدة، ولا يحصل الترتيب؟!
فالجواب: أنه إذا وقع عن جملة الطهارة.. كان الحكم له دونها، وهاهنا وقع عن بعضها، فاعتبر ـ فيما يفعله من ذلك ـ الترتيب.
فإذا دخل عليه وقت فريضة أخرى، فإن كان جنبًا.. أعاد التيمم دون الغسل.
وإن كان محدثًا الحدث الأصغر.. فقد قال ابن الحداد: أعاد التيمم.
قال ابن الصباغ: وهذا يحتاج إلى تفصيل:
فإن كانت الجراحة في رجله.. أعاد التيمم وأجزأه.
وإن كانت في وجهه أو يديه.. فينبغي على الأصل الذي قدمناه أن يعيد التيمم، وما بعد موضع الجراحة من الغسل؛ ليحصل الترتيب.
فإن قيل: فبحضور الفريضة الثانية، لم يعد حدث إلى موضع الجرح، وحكم التيمم باقٍ فيه، ولهذا يصلي به النافلة؟
فالجواب: أن حكم الحدث عاد إليه في حق الفريضة الثانية، ولهذا منعناه من أن يصليها، فإذا أراد استباحتها. تيمم لها، فينوب هذا التيمم عن غسل العضو المجروح في حق الفريضة، فيحتاج إلى إعادة ما بعده ليحصل الترتيب.
فإذا برئ موضع الجراحة.. بطل حكم التيمم فيه، ووجب غسله.
وهل يحتاج إلى إعادة ما غسله من الصحيح؟ نظرت:
فإن كان في الوضوء.. غسل ما بعد ذلك العضو.
فأما ما قبله من أعضاء الطهارة.. ففيه، وفي غسل بقية بدنه إن كان جنبًا قولان، كما قلنا في ماسح الخفين: إذا نزعهما، أو انقضت مدة المسح، وهو على طهارة.. فإنه يبطل مسحه، وهل يحتاج إلى استئناف الطهارة؟. فيه قولان.